إسرائيل و"الحل النهائي"- تهجير قسري يهدد غزة والمنطقة.

يشهد قطاع غزة تصعيدًا مروعًا في وتيرة العنف الإسرائيلي، وذلك منذ المجزرة البشعة التي وقعت في 18 مارس/آذار 2025، والتي أودت بحياة أكثر من 400 شهيد، غالبيتهم الساحقة من الأطفال والنساء. وما تلا تلك الفاجعة من أعمال قتالية، قد رفع عدد الضحايا إلى ما يقارب 700 شهيد، إضافة إلى أعداد هائلة من الجرحى والدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية. وبالتوازي مع ذلك، تتواصل الممارسات القمعية في الضفة الغربية، من مداهمات واقتحامات مستمرة، ومصادرة للأراضي والممتلكات، وترويع للسكان الآمنين، وعمليات قنص ممنهجة. كل هذه الأحداث تؤكد بشكل قاطع تصميم إسرائيل الراسخ على تنفيذ مخطط التهجير القسري، وذلك من خلال استخدام أساليب الترهيب والاحتلال العسكري، ومنع وصول المساعدات الإنسانية الضرورية إلى المحتاجين.
من خلال شن الغارات الجوية الأخيرة، تستهزئ إسرائيل بشكل سافر بنتائج قمة القاهرة التي انعقدت لبحث إعادة إعمار غزة، وتضرب عرض الحائط بكل الجهود المبذولة في هذا الشأن. فالعمليات العدوانية الأخيرة، لا تعدو كونها مقدمة لما يمكن أن نطلق عليه "الحل النهائي"، وهو مصطلح ينطوي على القضاء التام على الشعب الفلسطيني، من خلال اقتلاعه وتهجيره قسرًا من أرضه التاريخية.
ومما يعزز هذا التوجه الخطير، قرار الكابينت الإسرائيلي بتبني إنشاء إدارة تابعة لوزارة الدفاع، عقب الاعتداءات المتلاحقة، والتي من شأنها "تسهيل" النقل "الطوعي" لسكان غزة، عبر مختلف الوسائل، برًا وبحرًا وجوًا، في محاولة لإضفاء الشرعية على عملية التهجير القسري.
إن كل المبررات التي تسوقها إسرائيل بشأن عدم إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، أو الدوافع المتعلقة بالوضع السياسي الداخلي المضطرب في إسرائيل، ومحاولات استرضاء المتطرفين أمثال بن غفير وسموتريتش، للحفاظ على تماسك الائتلاف الحكومي الهش، والوضع المهزوز الذي يعيشه نتنياهو، ما هي إلا ذرائع واهية ومضللة. فالاعتداءات الأخيرة تندرج ضمن رؤية ممنهجة، تهدف إلى خلق أوضاع نفسية قاسية في أوساط سكان غزة، من خلال الترويع والتجويع والحصار الخانق، لدفعهم قسرًا إلى النزوح والهجرة.
لطالما كان إخلاء الضفة الغربية وضم قطاع غزة، جزءًا لا يتجزأ من أدبيات اليمين المتطرف في إسرائيل. ويقوم التحالف الحاكم الحالي داخل الحكومة الإسرائيلية على أساس تنفيذ هذه الرؤى المتطرفة من خلال "الحل النهائي". والجدير بالذكر أن "الحل النهائي" كان هو المصطلح الذي استخدمه النازيون للإشارة إلى خطتهم للقضاء على اليهود، قبل أن يتم صياغة مصطلح الإبادة الجماعية من قبل الحقوقي البولندي رافائيل ليمكين، ليصبح مصطلحًا متداولًا على نطاق واسع بعد ذلك.
إن الإدارة الأميركية الحالية لم تزد على تبني أدبيات اليمين الإسرائيلي المتطرف، بشكل جلي فيما يتعلق بالضفة الغربية، من خلال تبنيها لمصطلحي "يهودا والسامرة"، ثم لاحقًا في تبني مخطط إخلاء غزة من سكانها. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يعلن الرئيس الأميركي عن خطة الإجلاء، قبيل زيارة نتنياهو المرتقبة إلى البيت الأبيض.
لقد تم احتواء ردود الفعل التي صدرت عن حلفاء الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، والتي أعربت عن رفضها لمخطط الترحيل، وذلك بعد القمة العربية التي انعقدت في القاهرة لبحث إعادة إعمار غزة. إلا أن خطة التهجير القسري، أو "الحل النهائي"، لا تزال ماثلة، وهو ما لم يخفه وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، الذي يلوح بضم غزة، ويعكف على تهيئة مخطط للإجلاء، أو الترانسفير، أو اتباع إسرائيل لسياسة القتل والترويع والتجويع والترهيب.
أكثر من 40 ألف شخص قد تم ترحيلهم قسرًا من الضفة الغربية في غضون أسابيع قليلة، بشهادة ممثل السلطة الفلسطينية في الأمم المتحدة رياض منصور. والوضع الإنساني في قطاع غزة يزداد تدهورًا يومًا بعد يوم، والحالة النفسية للسكان يغلب عليها اليأس والإحباط، ووضعهم المعيشي أسوأ بكثير مما كان عليه خلال فترة الحرب.
إن المجازر المرتكبة، ما هي إلا تمهيد لتنفيذ "الحل النهائي"، ولا يمكن التسليم بأن قمة القاهرة التي عقدت لبحث إعادة إعمار غزة، قد أبطلت مخطط التهجير القسري.
لم تصدر ردود فعل قوية على التوجه الخطير الذي تسلكه إسرائيل، إلا من قِبل بعض الكتاب والمحللين في الصحافة الإسرائيلية والغربية، الذين يدركون تمام الإدراك خطورة هذا الانزلاق نحو الهاوية.
لم يخفِ مبعوث الرئيس الأميركي في الشرق الأوسط ستيفن ويتكوف، تخوفه العميق من أن السياسة الإسرائيلية الحالية من شأنها أن تنسف الجهود التي بذلتها أميركا على مدى نصف قرن، منذ اتفاقية كامب ديفيد، وأن يكون لها تداعيات سلبية وخيمة حتى على حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة. إلا أن الموقف الفعلي للولايات المتحدة لا يزال مؤيدًا للسياسة الإسرائيلية، ولم يتم اتخاذ موقف حازم وواضح تجاه الاعتداءات الأخيرة.
يظل العمل الدبلوماسي المطلوب للتنديد بهذا الانحراف الخطير دون المستوى المطلوب، سواء على مستوى الأمم المتحدة، أو في تحرك عربي فعال، من قِبل الدول العربية التي هي حليفة للولايات المتحدة، أو على مستوى دول الاتحاد الأوروبي، أو المجتمع المدني الغربي.
إننا نقف على أعتاب "الحل النهائي" للفلسطينيين، ولا يمكن التذرع بالجهل، أو كما قال ممثل فلسطين في الأمم المتحدة رياض منصور، فسياسة إسرائيل لم تكن قط بالوضوح الذي هي عليه الآن، إذ ما يحركها هو أطماع استعمارية توسعية. وهذا الوضوح، هو ما يقتضي وضوحًا مماثلًا من جانب المجتمع الدولي، لإفشال "الحل النهائي".
قد يكون تواجد الرئيس ترامب على رأس السلطة في البيت الأبيض عاملًا مشجعًا لنتنياهو، ولكن هناك عناصر فاعلة في المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة تدرك خطورة "الحل النهائي"، مثلما يظهر جليًا من تصريح ويتكوف.
وحتى في داخل إسرائيل، لم تعد هناك نظرة موحدة، كما كانت سائدة بعد طوفان الأقصى، حيال التعامل مع قطاع غزة. وهناك اتجاهات متنامية تخشى أن يؤدي العنف المستمر إلى تغذية عنف مضاد يهدد أمن إسرائيل، فضلًا عن التمزق والانقسام الذي يشهده المجتمع الإسرائيلي، نتيجة الاختلالات الداخلية العميقة، مما يدفع الكثير من المراقبين إلى التحذير من احتمال اندلاع حرب أهلية.
هناك العديد من الأوراق التي يمكن استخدامها على المستوى الدبلوماسي لتعطيل الخطة الإسرائيلية، على المديين المتوسط والبعيد، أو حتى في توظيف التناقضات الموجودة داخل الحقل السياسي الإسرائيلي. ولكن الأولوية القصوى تكمن في وقف العدوان، واحترام وقف إطلاق النار، وحماية المدنيين الأبرياء، وتسهيل إدخال المساعدات الإنسانية الضرورية، وهي مسؤولية تقع على عاتق الأمم المتحدة، بالتوازي مع القوى الكبرى.
لا يمكن التعلل بوجود الأسرى الإسرائيليين لتبرير قتل المدنيين الأبرياء والأطفال والنساء. ولا يبدو أن نتنياهو يعبأ بمصير الأسرى الإسرائيليين، أو أن قضيتهم تشكل شغله الشاغل.
ينبغي فضح النوايا الخفية وراء الاعتداءات الأخيرة، والتي تهدف إلى تهيئة الأرضية النفسية لتنفيذ "الحل النهائي" من خلال الترويع والتجويع والحصار. إن "الحل النهائي"، هو وصفة مؤكدة للخراب والدمار في منطقة الشرق الأوسط بأسرها، ولن تبقى تداعياته محصورة داخل حدود المنطقة.